و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : توفى أبى رحمه الله يوم الجمعة ضحوة و دفناه بعد العصر لاثنتى عشرة ليلة من ربيع الآخر سنة إحدى و أربعين و مئتين ، و صلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر غلبنا على الصلاة عليه ، و قد كنا صلينا عليه نحن و الهاشميون داخل الدار ، و كان له ثمان و سبعون سنة .
قال عبد الله : و خضب أبى رأسه و لحيته بالحناء و هو ابن ثلاث و ستين سنة .
و هكذا قال نصر بن القاسم الفرائضى ، و أبو الحسن أحمد بن عمران الشيبانى إنه مات فى ربيع الآخر .
و قال أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوى ، عن بنان بن أحمد بن أبى خالد القصبانى : حضرت الصلاة على جنازة أحمد بن حنبل يوم الجمعة سنة إحدى و أربعين و مئتين ، و كان الإمام عليه محمد بن عبد الله بن طاهر ، فأخرجت جنازة أحمد بن حنبل ، فوضعت فى صحراء أبى قيراط ، و كان الناس خلفه إلى عمارة سوق الرقيق ، فلما انقضت الصلاة ، قال محمد بن عبد الله بن طاهر : انظروا كم صلى عليه و رأى ، قال : فنظروا فكانوا ثمان مئة ألف رجل ، و ستين ألف امرأة ، و نظروا من صلى فى مسجد الرصافة العصر فكانوا نيفا و عشرين ألف رجل .
و قال جعفر بن محمد بن الحسين المعروف بالترك عن فتح بن الحجاج : سمعت فى دار الأمير أبى محمد عبد الله بن طاهر أن الأمير بعث عشرين رجلا ، فحزروا كم صلى على أحمد بن حنبل ، قال : فحزروا ، فبلغ ألف ألف و ثمانين ألفا .
و قال غيره : و ثلاث مئة ألف سوى من كان فى السفن فى الماء .
و قال الإمام أبو عثمان الصابونى : سمعت أبا عبد الرحمن السلمى يقول : حضرت جنازة أبى الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبى الحسن الدارقطنى ، فلما بلغ إلى ذلك الجمع الكبير ، أقبل علينا ، و قال : سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول : سمعت أبى يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا و بينكم يوم الجنائز .
و قال عبد الرحمن بن أبى حاتم الرازى : حدثنى أبو بكر محمد بن عباس المكى ، قال سمعت الوركانى جار أحمد بن حنبل قال : أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفا من اليهود و النصارى و المجوس .
قال : و سمعت الوركانى يقول يوم مات أحمد بن حنبل : وقع المأتم و النوح فى أربعة أصناف من الناس : المسلمين ، و اليهود ، و النصارى ، و المجوس .
قال أبو عبد الرحمن على أثر هذه الحكاية : إنه حزر الحزارون المصلين على جنازة أحمد ، فبلغ العدد بحزرهم ألف ألف و سبع و مئة ألف سوى الذين كانوا فى السفن .
و قال الحافظ أبو نعيم فيما أخبرنا أحمد بن أبى الخير عن أبى المكارم اللبان إذنا عن أبى على الحداد ، عنه : حدثنا أبى ، حدثنا أحمد بن محمد بن عمر ، حدثنى نصر بن خزيمة ، قال : ذكر ابن مجمع بن مسلم ، قال : كان لنا جار قتل بقزوين ، فلما كان الليلة التى مات فيها أحمد بن حنبل خرج إلينا أخوه فى صبيحتها ، فقال إنى رأيت رؤيا عجيبة ; رأيت أخى الليلة فى أحسن صورة راكبا على فرس ، فقلت له : يا أخى أليس قد قتلت ؟ فما جاء لك ؟ قال إن الله عز و جل أمر الشهداء ، و أهل السماوات أن يحضروا جنازة أحمد بن حنبل ، و كنت فيمن أمر بالحضور ، فأرخنا تلك الليلة ، فإذا أحمد بن حنبل مات فيها .
وفاة الإمام أحمد بن حنبل( من ويكي مصدرلاابن كثير)
قال ابنه صالح: كان مرضه في أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف، فقلت: يا أبت ! ما كان غداؤك؟
فقال: ماء الباقلا.
ثم إن صالحا ذكر كثرة مجيء الناس من الأكابر وعموم الناس لعيادته، وكثرة حرج الناس عليه، وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها، وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين، فأخذ شيئا من الأجرة فاشترى تمرا وكفَّر عن أبيه، وفضل من ذلك ثلاثة دراهم.
وكتب الإمام أحمد وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين.
وأوصي أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا.
وأوصي لعبد الله بن محمد المعروف ببوران عليَّ نحوا من خمسين دينارا وهو مصدق فيها، فيقضي ماله عليَّ من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استوفى أعطى ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم.
ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما فسماه: سعيدا، وكان له ولد آخر اسمه: محمد قد مشى حين مرض فدعاه فالتزمه وقبله ثم قال: ما كنت أصنع بالولد على كبر السن؟
فقيل له: ذرية تكون بعدك يدعون لك.
قال: وذاك إن حصل.
وجعل يحمد الله تعالى، وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها أنَّ، وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة، فأنَّ حين اشتد به الوجع.
وقد روي عن ابنه عبد الله، ويروي عن صالح أيضا أنه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر أن يقول: لا بعد لا بعد.
فقلت: يا أبت ! ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة؟
فقال: يا بني ! إن إبليس واقف في زواية البيت وهو عاض على إصبعه وهو يقول: فتَّني يا أحمد؟
فأقول: لا بعد، لا بعد - يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد - كما جاء في بعض الأحاديث قال إبليس: يا رب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
فقال الله: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه.
وقد كانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فاجتمع الناس في الشوارع، وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان، وأرسل يقول: هذا نيابة عن الخليفة، فإنه لو كان حاضرا لبعث بهذا.
فأرسل أولاده يقولون: إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره، وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان.
وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطا واشتروا له راوية ماء، وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا، وكان لا يزال متغضبا عليهم لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم، وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء.
وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله.
وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزَّى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر، وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق.
وقد روى البيهقي وغير واحد: أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف.
وفي رواية: وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف.
قال البيهقي، عن الحاكم، سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي، يقول: سمعت محمد بن يحيى الزنجاني، سمعت عبد الوهاب الوراق، يقول: ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل.
فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي، يقول: حدثني محمد بن العباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس.
وفي بعض النسخ: أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا، فالله أعلم.
وقال الدارقطني: سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: سمعت أبي، يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر.
وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان.
وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس.
وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد روى البيهقي، عن حجاج بن محمد الشاعر، أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد.
وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد: دفن اليوم سادس خمسة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد.
وكان عمره يوم مات سبعا وسبعين سنة وأياما أقل من شهر، رحمه الله تعالى.