موضوع: راتب أيوب ... قصة قصيرة . الإثنين يوليو 12, 2010 5:44 am
راتب أيوب
كتابة :عبدالله الناصر تسلّم (أيوب) راتبه، وركب سيارته، وتخيل أنه مسرور، وأن فرحاً بدأ يدب في داخله..! وكان في الطريق يتحسس الراتب في جيبه.. وحاول أن يوزعه توزيعاً عادلاً ودقيقاً، ومنطقياً أيضاً... حسب مصروف البيت، فصار يجمع، ويضرب، ويطرح.. فحذف أشياء كثيرة، لم تعد تحتمل... ثم مرّ على فاتورة الكهرباء والتي هدت جيبه، وكسرت ظهره بكثرة ارتفاعها. حتى كأن بيته تحول إلى مصنع للطائرات!! وقال عليّ أن أدفع راضياً أو كارهاً فبمجرد ان أحتج فسوف يهددونني بقطع التيار، ويتركونني أنا وأطفالي كفراخ دجاج داخل فرن..! ثم مرّ على فاتورة الماء والهاتف، واستحقاقات البنك.. ثم على مستحقات السائق، والشغالة فإذا بالراتب سيغطي خمسة عشر يوماً بالتمام، والكمال! فانتابته حسرة وألم... وفجأة رثى لعيني زوجته وهي تنظر إلى حقائب تحمل للسفر إلى لندن، وجنيف، وباريس، وكان، ثم صرف النظر عن التفكير وقال: إن السفر إلى كان، وما كان لن يحدث إلا بمعجزة من معجزات الزمان..! وفكّر جدياً وقال: ماذا لولا قدر الله هبط عليّ ضيف ثقيل.. أو أصيب أحد الأطفال.. أو مرض السائق، أو الشغالة..؟ ولكنه تفاءل وقال: هذه وساوس لا لزوم لها.. وسار في الطريق، وكان الجو جهنمياً لاهباً.. وإذا بدرجة حرارة سيارته ترتفع إلى النهاية فيرتفع معها ضغطه، وتتعالى أنفاسه، وتزداد دقات قلبه وهو يقول: يا ساتر استر.. وبينما كان يسير في الطريق كمن يسير على جسر من اللهب.. وإذا بسيارتين فارهتين بهما مجموعة من الشباب.. تتجاكران، وتتحادان في الشارع، وتحدثان ارتباكاً بين السيارات.. وعند إشارة المرور تبودلت الشتائم، وارتفعت الأصوات.. ثم بدأت التهديدات الجادة.. وما هي إلا لحظات حتى بدأت معركة فعلية حية.. فصرت لا ترى إلا العُقل، والأحذية ثم الحجارة.. وحمي الوطيس، وانسد الطريق، وأغلق.. وارتفعت درجة حرارة المكان حتى قاربت الستين.. وكانت هناك ارتال من السيارات خلف (أيوب) وارتال من أمامه، وقد اختلط هديرها مع أصوات المنبهات، والهمهمات، والضرب، والشتائم، وأصوات آلات الحفر والعمالة، وفوق الجميع غابة من الرافعات الحديدية تتحرك ببهلوانية، ولها أنياب أسطورية كأنياب الأغوال.. وغلت الدنيا حتى كأن الجميع في فرن ذري، أو داخل محرقة مليئة بالشياطين، والمردة..! وأضاء لون الحرارة الأحمر في سيارة (أيوب) فأطفأها خوفاً من الحريق.. ولكن جسمه ظل يحترق، ورأسه ظل يغلي، وضميره يتمزق... وهاج الناس ولم يتحملوا هذا الجحيم.. فهبطوا من سياراتهم، يصيحون، ويشتمون، ويحاولون فض النزاع، وإيقاف المعركة.. وهبط أيوب إلى الساحة، ودخل في غمرة الجموع، يحاول فك الاشتباك، ولم يسلم من لطم، ورفس، وعفس، ولم تتوقف المعركة إلا بعد أن شبع الطرفان من الجلد، والضرب، واللكم، وسيل الدماء... وحينما عاد (أيوب) إلى سيارته وجد أن حجراً قد هوى على الزجاجة فحطمها، وتحولت إلى ركام داخل المقعد.. فلم يدر ماذا يفعل، وقد أرعبته جموع السيارات من خلفه تريد الانطلاق.. فأخذ يكنس الزجاج على عجل، فتجرحت أصابعه مثلما تجرح قلبه.. وسار في سيارته مكشوفاً بلا زجاجة حيث يلفحه السموم، والهجير، والعذاب.. وبدأ رأسه يغلي كقدر مكتوم، وغامت الدنيا في عينيه، وأخذت سيارته تضطرب، وتتمايل، وتحتك بالأرصفة، وكاد يصطدم بأكثر من سيارة، وانصبت عليه الشتائم من كل جهة.. وكانت تنبعث من مذياع السيارة، أغنية تافهة، وسخيفة، فأغلق المذياع وكاد يبصق عليه! وصل إلى بيته في حالة بائسة ومزرية.. ولما تحسس جيوبه فإذا براتبه قد طار في غبار المعركة.. أخذ (أيوب) يخبط برأسه على الحائط في قسوة، وعنف، وفجيعة وهو يبكي وينوح..!!