|
داخل النخبة السياسية اليابانية يسود إعتقاد بوجود علاقة بين فئة الدم والسمات الشخصية، حيث تطبقها الشركات ودور الحضانة اليابانية واستغلها البعض في السياسة |
لا يعدم اليابانيون حيلة في إدهاش العالم، والاستحواذ على إعجابه وتقديره للعبقرية اليابانية المتألقة في شتى دروب العلم والفن والفكر والتكنولوجيا، ومن أطرف حيل هذا الإدهاش اعتقاد يسود بين معظم اليابانيين بأن فصيلة الدم هي المفتاح الأساس في التعرف على ملامحك وصفاتك وطباعك ومزاجك الشخصي، حتى أصبح الشعار الذي يرفعه الكثيرون منهم: «قل لي ما فصيلة دمك.. أقُل لك من أنت».
وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد يشي ضمنيا بغيرة ما من الصينيين الذين يحتكرون علم صناعة الأبراج، وما يرتبط بها من أساطير وخرافات، فإن الطريف في الأمر أن هذا الاعتقاد الذي حقق رواجا بين قطاعات كبيرة في المجتمع الياباني، تجاوز منطق الحيلة البسيط، وأصبح بمثابة علم له أصول وقواعد، وكان من ثمرته أربعة كتب، شرحت أبعاده وحللت دلالته ورموزه.
واللافت أن هذه الكتب احتلت قائمة الكتب الأكثر مبيعا على المستوى الشعبي في سوق الكتاب باليابان في العام الماضي.
تبدأ جذور حكاية فصيلة الدم بعام 1901، حينما خرج العالم النمساوي كارل لاندستينر على البشرية باكتشاف يعد أحد أعظم الاكتشافات العلمية في القرن الماضي، حيث تمكن من التعرف على فصائل الدم الرئيسة، وهو ما جعل عمليات نقل الدم أكثر أمنا.
ورغم أن محاولات نقل الدم بين الأشخاص جرت قبل هذا التاريخ بمئات السنين، فإن كثيرين لقوا حتفهم خلالها لجهل الأطباء بفصائل الدم، وقد نال لاندستينر جائزة نوبل في الطب عن هذا الإنجاز عام 1930، واختير عيد ميلاده ـ 14 يونيو (حزيران) ـ ليكون اليوم العالمي للتبرع بالدم.
المؤكد أن أحدا، بما في ذلك لاندستينر نفسه لم يدُر بخلده قط أن هذا الاكتشاف سيحمل دلالات ثقافية أعمق بكثير في بعض دول آسيا، وعلى رأسها اليابان، دلالات لا تخلو من طرافة وغرابة، فبمقدور من أسعده الحظ بزيارة اليابان ملاحظة انتشار اعتقاد عام في أوساط اليابانيين بوجود علاقة بين فصيلة الدم والسمات العامة المميزة للشخصية، وتنتاب الدهشة اليابانيين لدى سؤالهم أجنبيا يزور بلادهم عن فصيلة دمه واكتشافهم عدم علمه بها.
ودفع الإيمان بصحة هذه الفكرة العجيبة عددا لا باس به من الشركات اليابانية إلى اختيار العاملين لديها، وتقسيمهم حسب فصائل الدم، وسارت على النهج ذاته بعض دور حضانة الأطفال التي قسمت الأطفال حسب فصيلة الدم.
خلال العام الماضي دارت أربعة من بين أفضل عشرة كتب حققت مبيعات في اليابان حول هذه الفكرة، وأعلنت دار النشر التي أصدرت الكتب الأربعة، «بنغيشا»، أن الكتب الأربعة ـ وهي سلسلة يتناول كل واحد منها فصيلة دم محددة ـ حققت إجمالي مبيعات تجاوزت 5 ملايين نسخة.
الطريف أن هذا الاعتقاد امتد إلى داخل النخبة السياسية اليابانية، حيث حرص رئيس الوزراء، تارو أسو، على الإشارة إلى فصيلة دمه في الصفحة الرسمية له على شبكة الإنترنت، وهي الفصيلة «إيه»، بينما ينتمي منافسه، إيشيرو أوزاوا، زعيم المعارضة، إلى الفصيلة «بي».
علاوة على ذلك، تعرض الوكالات المعنية بالزواج اختبارات لمدى توافق فصائل الدم بين الراغبين في الزواج، وتلقى هذه المسألة اهتماما خاصا من جانب المجلات النسائية، اهتماما يشبه اهتمام ثقافات أخرى، بينها الثقافة الغربية، بفكرة تأثير الأبراج الفلكية على السمات العامة لشخصية الفرد.
وتدور الفكرة المنتشرة في أوساط اليابانيين حول ارتباط كل فصيلة دم بسمات عامة مميزة على النحو التالي: - الفصيلة «O»: انبساطي واجتماعي للغاية، يملك روح المبادرة، وإن كان لا ينجز دوما المهام التي يبدؤها، إبداعي وذو شعبية كبيرة، ويحب أن يكون محور الاهتمام، ويبدو على درجة كبيرة من الثقة بالنفس. فضولي وكريم وعنيد.
- الفصيلة «A»: يبدو في مظهره هادئا، ولديه نزعة مثالية، ويميل إلى تخزين قدر بالغ من العصبية في داخله، هذه الفصيلة تتميز بالحس الفني الأعلى من بين فصائل الدم كافة، وتتسم أحيانا بالخجل، علاوة على كونه شخصا ذا ضمير حي وحساسا وجديرا بالثقة، لكنه يبالغ في مشاعر القلق.
- الفصيلة «B»: يميل إلى وضع أهداف محددة نصب عينيه، وعندما يشرع في مهمة لا يتركها إلا بعد إنجازها على النحو الأكمل، يتميز عن باقي الفصائل بنزعة فردية قوية، وقادر على تحديد طريقه في الحياة. مرح وأناني وغريب الأطوار.
- الفصيلة «AB»: تجمع بين فصيلتين، وبالتالي بين نمطين من الشخصية، فهذا الشخص من الممكن أن يتميز بالانبساط والخجل، والثقة والجبن، كما أنه جدير بالثقة وتواق لمساعدة الآخرين، ومحب للفنون وغامض، ويتعذر التكهن بتصرفاته.
التوافق بين فصائل الدم المختلفة:
ـ «A» أكثر توافقا مع «A» و«AB».
ـ «B» أكثر توافقا مع «B» و«AB».
ـ «AB» أكثر توافقا مع «AB» و«B» و«A» و«O».
ـ «O» أكثر توافقا مع «O» و«AB».
المثير أن هذه الخرافة خرجت من رحم العلم، وتعد نتاجا لمحاولات تسييسه، كانت البداية في مطلع القرن الماضي، تحديدا عام 1916، على يد دكتور كوباياشي ساكاي، الذي تلقن هذه الخرافة في ألمانيا من قبل آيديولوجيين نازيين.
إلا أن أول انتشار للفكرة على الصعيد العام الياباني جاء عام 1927، عندما نشر تاكيجي فوروركاوا، بروفسور بكلية المعلمات في طوكيو، دراسة بعنوان «دراسة الميول الشخصية عبر فصائل الدم».
وجاءت الدراسة ردا على محاولات البعض في الغرب الترويج لفكرة عنصرية مفادها أن الشعوب الآسيوية أقرب شبها إلى الحيوانات منها إلى الإنسان، أو باعتبارها أدنى مرتبة في إطار سلسلة التطور، نظرا لأن فصيلة الدم «B» هي السائدة في الآسيويين والحيوانات، الأمر الذي يدحضه العلم الحديث تماما.
سرعان ما تركت دراسة فوروركاوا أصداء واسعة لدى الرأي العام الياباني، رغم افتقارها إلى أدلة علمية تؤكدها، وأمرت الحكومة العسكرية اليابانية آنذاك بإجراء دراسة حول هذا الأمر لتحسين مستوى الجنود.
وفي محاولة أخرى لتسييس العلم، أجرى فوروركاوا دراسة أخرى بهدف سبر أغوار الخصال العنصرية لدى التايوانيين، وبناء على توصله إلى أن 41.2 في المائة من عينة الأفراد التايوانيين الذين اعتمدت عليهم الدراسة ينتمون إلى الفصيلة «O»، افترض فوروركاوا أن تمردهم وثورتهم لها جذور جينية.
وعمد إلى التأكيد على ذلك بالإشارة إلى أن التايوانيين من عرق الآينو، المتميزين بالطاعة، ينتمي منهم 23.8 في المائة فقط إلى فصيلة الدم ذاتها، وعليه، اقترح فوروركاوا تشجيع مزيد من الزواج بين التايوانيين واليابانيين لتقليص معدلات الفصيلة «O» بينهم.
بعد سنوات قليلة تلاشت الفكرة مع عدم وجود أي أدلة علمية تؤكدها، إلا أنها عاودت الظهور بقوة في السبعينات مع سعي ماساهيكو نومي، الصحافي، أحد أنصار الفكرة ممن يفتقرون إلى أي خلفية طبية، للترويج لها على الصعيد العام.
من جهته علق دكتور منير حسن جمال، رئيس قسم علم النفس بكلية التربية في جامعة العريش، بقوله: «من أجل تفهم مثل هذه المعتقدات السائدة لدى شعوب معينة ينبغي في البداية تفهم الأطر الثقافية لها، بالنسبة لشعوب جنوب شرقي آسيا بوجه عام، واليابانيين على نحو خاص، الملاحظ أنها شعوب لا تتبع أي ديانات سماوية، ما يجعلها أكثر ميلا إلى الإيمان بمعتقدات دون أن يكون لها أساس من الصحة لحاجتها إلى سد الفجوة الإيمانية والعقائدية لديها، علاوة على ذلك، فإن المجتمعات المختلفة تتباين فيما بينها في المناهج الفكرية التي تتبعها.
على سبيل المثال، نجد المدرسة الأميركية البرجماتية القائمة على التجربة المباشرة، بينما تتبع أوروبا مدرسة منهجية تستغرق فكرة ما في إطارها سنوات عدة وربما عقودا كي ترسخ جذورها، أما المجتمعات الشرقية بوجه عام فعادة ما تخلط بين العلم والثقافة الدينية، سواء سماوية أو غير سماوية، وتفتقر إلى إطار فلسفي عام أو برجماتي».
وحول مدى خطأ اليابانيين أو صوابهم في إطار هذه الفكرة يقول الدكتور جمال: «بالنسبة لهذه الفكرة تحديدا، لا يمكننا القول إن اليابانيين خاطئون بالضرورة أو أن المنهج الفكري الغربي الأصح بالضرورة، فطبقا لنمط التفكير الياباني تعد هذه الفكرة صائبة، كما أن المرء الذي يولد في مجتمع مثل المجتمع الياباني يؤمن بوجود صلة بين نمط فصيلة الدم وسمات شخصية محددة.
من الطبيعي أن يتأثر من دون وعي بهذا الإطار المسبق لشخصيته ويعدل شخصيته على نحو يتطابق مع الصورة التي بات يؤمن بها لشخصيته»، مشيرا إلى أن «مثل هذه الأفكار عامة تنتشر على نحو خاص داخل المجتمعات الشرقية التي تستمد إطارها التفكيري دوما من تاريخها وموروثاتها».