هتمام طبي بالماء الأبيض.. له ما يُبرره
الماء الأبيض غشاوة تعترض صفاء الرؤية، وتنجم عن تغير في مكونات عدسة العين. ومعلوم أن نجاح عدسة العين في إتمام رؤية ما حولنا، يعتمد على صفاء وشفافية العدسة، كما يعتمد على مرونة العدسة المحدبة للعين في تفاعلها مع احتياج المرء للتركيز على رؤية الأشياء القريبة أو البعيدة.
وحال الإصابة بالماء الأبيض تُصبح الرؤية مشوشة، وتبدو ألوان الأشياء في المشهد المرئي ذابلة، كما تتدنى قدرات الإبصار بوضوح في الليل، ما يتطلب من المرء تغيير «مقاس» عدسات نظارته عدة مرات في فترات زمنية قصيرة للتغلب على تأثيرات النشوء المتدرج والمتواصل للماء الأبيض في العدسة.
تشير المؤسسة القومية للعين في الولايات المتحدة، إلى أن نصف الناس الذين تجاوزوا ثمانين سنة من العمر، مُصابون بالماء الأبيض أو أُجريت لهم عملية لإزالته. وأنه السبب الرئيسي لضعف البصر وللعمى في ما بين المتقدمين بالعمر. ويبلغ عدد عمليات إزالة الماء الأبيض أكثر من مليوني عملية سنوياً في الولايات المتحدة وحدها، لتتصدر، وبلا منازع، قائمة أنواع العمليات الجراحية التي يتم إجراؤها في الولايات المتحدة.
وقد تكفي الغالبية هذه العبارات لتبرير الاهتمام الطبي بالماء الأبيض. لكن القصة لدى الباحثين، لا تقف هنا، بل ثمة جوانب أخرى أكثر إثارة، في مسرحية «الماء الأبيض» عند التقدم في العمر، مبنية على تلك الملاحظات حول تدني الإصابات بهذه الحالة لدى كبار السن من سكان المناطق الجبلية المرتفعة، مقارنة بالمناطق المنخفضة. وثمة من يتحدث عن تشابه بين هذا التدني في الماء الأبيض، وبين الملاحظة الأخرى حول سرعة التئام الجروح والكسور لدى سكان المناطق المرتفعة.
ويعتقد البعض أن هذا مجال خصب للبحث في دور تدني ثاني أوكسيد الكربون في إصابات شيخوخة الأنسجة، ما يُبرر تلك الدراسات التي تقول بأن ثمة ما يبرر جدوى السكن في مناطق، مختلفة جغرافياً ومناخياً، دون غيرها للنجاح في بلوغ أرقام عالية من عدد سنوات العمر.
كما أن هناك حديثا علميا عن وجود نظام خاص بتزويد عدسة العين بالغذاء والأوكسجين وغيره من المواد التي يحملها الدم عادة لدعم حياة أنسجة الجسم. ومعلوم أن العدسة تفتقر إلى شعيرات دموية تغذيها بشكل مباشر. لذا فإن «اضطرابات ما» قد تنشأ في هذا النظام حال التقدم في العمر، وتُؤثر في توفير الأوكسجين ومواد الطاقة لبروتينات ألياف العدسة، ما ينتج عنه تراكم الماء في تلك البروتينات، وظهور قطرات من الماء، كتلك التي في الشلال، في العدسة. وذلك سواء كانت كلمة «كتاراكت»، التسمية الإنجليزية لمرض الماء الأبيض، مشتقة من كلمة «قطرات» من الماء المكونة للشلال، أو كانت مشتقة من كلمة «كتاراكتا» اللاتينية لوصف بياض شلالات الماء.
والحديث يتوسع ليشمل الفرضيات المطروحة حول التغيرات في مستوى الشحنات الكهربائية السلبية للبروتينات الشفافة في ألياف مكونات العدسة. وتوفر شحنات سالبة بمقدار معين في تلك البروتينات يمنع الماء من التراكم في ما بين تلك البروتينات، ما يُعطي شفافية وصفاء لتلك الألياف البروتينية المكونة لمادة العدسة نفسها.
وحينما ينشأ خلل في كهربائية البروتينات تلك، تتراكم «قطرات» المياه فيها وتتحلل بالتالي العدسة الشفافة إلى عدسة بيضاء معتمة. بل ويتطور الحديث العلمي عن بروتينات زلال البيض الشفاف أو الأنسجة اللحمية الشفافة لأنواع من الأسماك، وعن سر تحولها عند الطهي إلى بياض البيض أو لحوم بيضاء جراء حصول تغيرات في محتويات الماء لتلك البروتينات.
وإلى هنا قد لا يكون حتى هذا مثيراً للبعض، لكن تعرف الباحثين على ثلاثة أنواع من البروتينات الشفافة ذات الخصائص الكهربائية، فتح الباب على حديث آخر حول «قدرات أنزيمية» لهذه البروتينات، ما قد يفرض البحث من قبل أطباء القلب والأعصاب عن مبررات ظهور مثل هذه البروتينات الشفافة بشكل غير معتاد في أنسجة القلب وأجزاء من الجهاز العصبي عند حصول إصابات فيها.
والواقع أن البحث في ما يعتري عدسة العين كي يظهر فيها الماء الأبيض، يفتح الباب على جوانب شتى من التغيرات التي تعتري الجسم نتيجة تقدم العمر ونتيجة التعرض للتغيرات البيئية. وما زاد الأمور تعقيداً، ومسؤوليات على الباحثين، هي تلك النتائج الإيجابية الواضحة، وغير المتوقعة، جراء تناول أدوية ستاتين لخفض الكوليسترول، في إبطاء تطور الإصابات بالماء الأبيض!.
أسباب متعددة للإصابة بالماء الأبيض
في ما عدا «التقدم في العمر» كسبب رئيسي لإصابات البالغين بالماء الأبيض في العين، فإن الأسباب الأخرى تشمل التعرض الطويل للأشعة فوق البنفسجية أو التعرض للإشعاعات، أو كنتيجة لبعض الأمراض مثل السكري. أما لدى الأطفال أو الصغار في السن، فقد يكون الأمر ناجماً عن عوامل جينية وراثية، أو نتيجة إصابات حوادث في العين، أو إجراء عمليات جراحية فيها.
كما أن الطيارين قد يتعرضون للإشعاعات الكونية القادمة من الفضاء الخارجي، ما يُعجل بنشوء الماء الأبيض في عيونهم.
وثمة مَن يقول إن التعرض لأشعة المايكروويف قد يفعل نفس الشيء. وقد تحصل الحالة نتيجة تناول أدوية كورتيزون المستخدمة لتخفيف حدة عمليات التهابات في الجسم، مثل الربو وزراعة الأعضاء والتهابات المفاصل الروماتزمية وغيرها. ونتيجة أيضاً تناول عقار أزيتمايب Ezetimibe، وهو أحد أدوية خفض الكوليسترول الضعيفة القوة.
وتتم عملية تكون الماء الأبيض بهدوء وصمت شديد، ولا يشعر المرء المُصاب بأي من أحداثها المتتابعة والمستمرة، إذْ لن تبدو على العين علامات كالألم أو الانتفاخ أو الاحمرار أو التهيج والحكة أو ظهور إفرازات منها أو تغيرات في كمية الدمع، بل حين وجود أي من هذه العلامات، يكون سبب التغيرات في الإبصار لا علاقة لها بالماء الأبيض. وغالباً ما تُصيب عمليات تكوين الماء الأبيض كلا العينين، لكن ثمة حالات تحصل في عين دون أخرى أو تتطور بسرعة في عين دون الأخرى.
وكلما زاد تطور تكوين الماء الأبيض، قلت فرصة اختراق الأشعة الضوئية لها، وبالتالي كلما تدنت قدرات الإبصار. وتظهر الأعراض على المصاب على هيئة «غبش» أو غشاوة في الرؤية مع تعتيم في صورة المشهد المرئي. ويُمسي من الصعب تبين صورة المشهد المرئي في أوقات الليل أو حين تخفيف إضاءة الحجرة أو غيرها. هذا مع ارتفاع مستوى الحساسية والتضايق من الأنوار العادية، التي قد تبدو للمُصاب وكأنها أضواء وهّاجة ومبهرة، بل قد يبدو له أن ثمة هالات تُحيط بالأضواء عند رؤيتها مباشرة. كما ويتطلب المُصاب مزيداً من الضوء حال القراءة أو الكتابة، ويضطر إلى تكرار كشف النظر لضبط قوة عدسة النظارة.
ويظل الماء الأبيض في مراحل تكوينه الطويلة زمنياً، شيئاً خاملاً بالنسبة لصحة بقية أجزاء العين. أي أنه تضرر مقتصر على العدسة وحدها. لكن مع اكتمال تكون الماء الأبيض في العين، قد تصل الأمور إلى حالة من زيادة النضج فيه Hypermature Cataract، لدى البعض. لذا، قد تتسبب هذه العدسة غير الطبيعية في حصول التهابات في العين أو ألم فيها أو ألم صداع في الرأس.
وتشخيص الإصابة بالماء الأبيض، في أي مرحلة، ممكن جداً من خلال فحص طبيب العيون لها في عيادته. ومن هنا جدوى اتباع الإرشادات الطبية حول ضرورة إجراء فحص للعين لدى الطبيب مرة كل ما بين سنتين وأربع لمن هم دون سن 65 سنة، ومرة كل سنة أو سنتين لمن تجاوزوا ذلك. أو اللجوء إلى طبيب العيون في أي وقت يشكو المرء فيه من أي أمر غير طبيعي له في العين.
وعادة ما يُجري طبيب العيون فحصاً لتحديد مقدار قوة الإبصار Visual Acuity Test، من ناحيتي حدة الإبصار ومدى وضوح صفات ما يراه المرء.
كما سيُجري الطبيب فحص العين ومكوناتها المرئية عبر جهاز «الشق الطولي للضوء» Slit-lamp Examination، الذي باستخدامه يطلب الطبيب من الشخص إسناد ذقنه على مُتكأ، ويُقرب مصدراً للضوء لعين الشخص كي يرى الطبيب من خلاله القرنية والعدسة والقزحية وغيرها من التراكيب الأمامية للعين، ثم يُجري الطبيب فحصاً لشبكية العين الواقعة في أجزائها الخلفية جداً، أي ما وراء العدسة، وقد يُجري فحصاً لتحديد مقدار ضغط العين.